Friday, March 14, 2008

بذار الشتات


أسبوع من الغياب كفيل بنثر بذار الشتات في روتيني اليومي. في الرسم أحتاج إلى روتين الممارسة. أقف اليوم حائرة وضائعة كطفلة أمام حامل لوحاتي. من أين أبدأ... كيف أبدأ؟... عصية هي البدايات ومستفز هو البياض. أهزم سريعا سريعا... يكفي التحديق في بياض اللوحة اليوم حتى تقع معدتي في باطن قدمي وأشعر بالغثيان. انسحب خائبة وألقي باللوحة بروح غير رياضية. تقع عيناي على لوحات سابقة و صور لأخرى فأنزعج منها كلها، كيف رسمتها؟! تتضاعف مساحة الفزع بداخلي من اختفاء مقدرتي على الرسم. أعرف أنها ليست أول مرة ينتاب فرشي الفتور لكن ذلك لا يسكن من هلعي شيئا... بعد سنوات من الرسم مازال بداخلي بقية غير مطمئنة، تلك التي تسول لي بمكر عدم التصديق.. "أي مدعية، من أوهمك؟!"... أنزعج هذه المرة حتى من صوت وساوسي وأتمتم بـ

oh shut up!

مسموعة. تتولد لدي معاضدة واحترام لنرجسية كنت استنكرها في الآخرين. بحاجة لإيمان مضاعف بنفسك حتى تخرس شياطينك، تقيل عثراتك وتتابع. فقط احترس من الغرق.
يوم صادفتها كنت متخمة بوساوس فنية أخرى، استمعَتْ إليها بهدوء قبل أن تلتمع عيناها ببروق ضاحكة وترسم ابتسامتها الدافئة المزيد من التجاعيد على صفحة وجهها. "في السبعين بدأت الرسم، واليوم... كما ترين... أعلمهُ للآخرين. صدقي بأن الوقت لم يفت بعد!".
أتذكر كلماتها ويشتعل وجهي خجلا – كيومها- من غرقي في شبر وساوس، وأحس بعزيمتي تستطيل وقدماي تثبتان على الأرض... أعود لمتابعة مسابقة التحديق مع لوحتي البيضاء بعينين ضيقتين ورفض كامل للإنسحاب أو المهادنة. ما أن تنحصر مساحة البياض حتى تسكنني سكينة وثقة فيما أفعل. يتشكل وجهه أمامي فأرتاح. تفلح الوجوه دائما من انتشالي من بؤرة اللا رسم. في حين يجد آخرون في البورتريه غريما لهم، أجده البوابة التي تعيدني إلى جادة الرسم. لا شيء أقدر من تقاسيم مملؤة حياة على منحي إلهاما مفقودا.
أنسى نفسي في وجوه الغرباء أحيانا وأحدق بعمق أكثر مما يليق... أرغب بتجميد لحظة استوقفتني ما يسمح لي باقتناصها بألواني... تختلط علي بوصلة المرأة والرسام ، فلا أعرف أيها انتبه فأفقد الثقة بحس المرأة وأخضعة لألف امتحان وامتحان. أبدي الرسام بداخلي... أثق به. اكتشف أني بعد كل هذه السنوات من قراءة ذلك الكتاب الفلكي أتفق معه ولا أثق بمشاعري ولا بما أريد... وأن أضمن طريقة لأبحث عن أقرب نافذة وأقفز منها هي كلمة أحبك
!
على البحر تتقاطع خطواتي الهادئة مع عدوه، يمر أمامي فانتبه لأني افتقدت هذه اللحظة البسيطة التي غدت جزءا من يومي. أتأمل حركته المتناغمة مع إيقاع أزلي خاص بجسده من خلف ستار نظارتي الداكنة فيذكرني برشاقة حركة الفهد الأسود الذي كنت مفتونة به في صغري.
تطفو إلى السطح هلاوس تخطر لي مؤخرا عن حاجة ملحة لرؤية نفسي من زاوية مختلفة، لأراني كما يراني أي عابر. كتلك اللوحات التي لا أكاد أفهم إيقاعها حتى ألتقط لها صورة وأنظر إليها فتظهر جلية، مع أنها تجلس أمامي لأيام على الحامل دون أن أدرك ما بها. أو لحظة نرى أنفسنا في صورة حديثة فنرتعب كم ازداد وزننا، مع أننا نظر في المرآة كل يوم مرات لا تحصى. ما الذي تلتقطه الكاميرا في تلك اللمحة وتعجز أعيننا عن رؤيته؟ أم أن الكاميرا بطريقة ما تختزل عشرات التفاصيل، المعلومات والأحاسيس وتعطينا صورة مجردة... رؤية عن بعد.
أضيع في أفكاري ثم في النوارس المحلقة في السماء خلفه... تهدأ خطواتي أكثر وأنزل نظارتي لأتأمل في تحليق النوارس حوله... انتبه لأني سببت له إرباكاً تجسد نغمة نشازا أخلت حركته... فأشعر برغبة بالضحك والإعتذار في آن معاً والتوضيح بأني توقفت للنوارس لا له - على الأقل هذه المرة-.. اكتفي بإخفاء عيني ومتابعة طريقي... أي اختراع عجيب هي هذه النظارات السوداء...